نشأة التصنيف في علم الحديث

بسم الله الرحمن الرحيم





نشأة التصنيف في علم الحديث

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، لا سيما المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد؛

لقد اجتهد علماء الحديث عليهم رحمة الله - تعالى - في تحرير القواعد التي وضعوها لقبول الحديث، وهي قواعد علم مصطلح الحديث، وحققوها بأقصى ما في الوسع الإنساني احتياطاً لدينهم؛ فكانت قواعدهم التي ساروا عليها أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها دقة.

هذا، وقد ألف العلماء في هذا الفن من عصر التدوين إلى يومنا هذا نفائس ما يُكتب.

فعلم الحديث أول ما نشأ لم تصنف فيه مصنفات مستقلة، وإنما كان أهل العلم يتكلمون عن أنواع علوم الحديث بطريقة مبثوثة في كتب شتى.

فأول من تكلم في ذلك هو الإمام الشافعي (ت204هـ) - رحمه الله -، في كتابه "الرسالة" و"الأم"، كذلك الإمام علي بن المديني (ت234هـ) - رحمه الله - والإمام يحيى بن معين (ت233هـ) - رحمه الله - وهما من تلاميذ الشافعي وقد تكلموا في أنواع كثيرة من أنواع علوم الحديث، ولكن كلامهم مبثوث في تلك الإجابات التي كانوا يجيبون بها على الأسئلة التي كانت توجه إليهم من تلامذتهم، وكذلك الإمام البخاري (ت256هـ) - رحمه الله - في كتابه "التاريخ الكبير" و"التاريخ الأوسط" له كلام في هذا العلم، وكذلك الإمام مسلم (ت261هـ) - رحمه الله - له كلام رائع في مقدمة صحيحه، وكذلك الإمام أبو داود (ت275هـ) - رحمه الله - في رسالته إلى أهل مكة في بيان طريقته في سننه المشهورة، وأيضاً ما كتبه الإمام الترمذي (ت279هـ) - رحمه الله - في كتابه "العلل" في آخر جامعه، ولغيرهم من العلماء من معاصريهم حتى جاء مَنْ بعدهم مِنْ العلماء فجرد هذه القواعد في كتب مستقلة.

فمن أول من صنف في علم الحديث استقلالاً هو الإمام أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي القاضي (ت360هـ) - رحمه الله - في كتابه الفذ الرائع "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" لكنه لم يستوعب، ثم جاء بعده الإمام أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ) - رحمه الله - صاحب المستدرك فألف كتابه "معرفة علوم الحديث" ولكنه لم يهذبه ولم يرتبه، ثم جاء بعده تلميذه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) - رحمه الله - فألف مستخرجاً على كتاب أبي عبد الله الحاكم.

إلى أن جاء الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت (ت463هـ) - رحمه الله - صاحب تاريخ بغداد؛ فصنف كتابه "الكفاية في أصول الرواية" وهو من أروع ما صنف الخطيب، وقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه الخطيب كتاباً مفرداً، فالخطيب البغدادي هو الذي فَتَقَ أنواع علوم الحديث، وكما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة (ت629هـ):"كل من أنصف عَلِم أن المحديثن بعد الخطيب عيال على كتبه".

ثم جاء بعدهم بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب، إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعرف بـ "ابن الصلاح" (ت643هـ) - رحمه الله -؛ فجمع كتابه "علوم الحديث" الشهير بـ "مقدمة ابن الصلاح"، فهذب فنون هذا العلم، ورتب علوم الحديث بهذا الترتيب الذي تأثر به كل من جاء بعده، فاعتنى ابن الصلاح بمؤلفات الخطيب المفرقة؛ فجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تَفرق في غيره؛ فلهذا عكف الناس على كتابه وساروا بسيره وداروا في فلكه، فلا يحصى كم ناظم له مختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر.

فممن اختصر مقدمةَ ابن الصلاح الإمامُ النووي (ت676هـ) - رحمه الله -، اختصرها في كتاب سماه "التقريب" الذي شرحه السيوطي (ت911هـ) - رحمه الله - في كتابه "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي".

وممن نظمها الحافظُ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت806هـ) - رحمه الله -، نظمها في كتابه "ألفية الحديث" وشرحها هو بنفسه وكذلك شرحها بعده الحافظ السخاوي (ت902هـ) - رحمه الله -، ويقول العراقي في مطلع ألفيته:

لَخَّصْتُ فيهَا ابْنَ الصَّلاحِ أَجْمَعهْ *** وَزِدْتُهَا عِلْمَاً تَرَاهُ مَوْضِعَهْ

وجاء الإمام السيوطي وزاد على ألفية العراقي ونظم ألفية الحديث أيضاً، ويقول في أولها:

وهـذهِ أَلْفيَّـةٌ تَحكِى الـدُّرَرْ *** منظومةٌ ضَمَّنْتُها عِلْمَ الأَثَـرْ

فائِقـةٌ أَلْفـيَّـةَ الـعِرَاقِـي *** فِي الجَمْعِ والإِيجازِ وَاْتِّسَـاقِ

ويقول أيضاً في أثناء الألفية:

وَاْقْرَأْ كِتَابًا تَدْرِ مِنْهُ الاِصْطِلاحْ *** كَهَذِهِ وَأَصْلِهَا وَابْنِ الصَّـلاحْ

يقصد بأصلها ألفية العراقي.

وممن استدرك على مقدمة ابن الصلاح وتعقبه أيضاً الحافظ العراقي في كتابه "التقييد والإيضاح لما أُطلق وأُغلق من مقدمة ابن الصلاح"، وأيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) - رحمه الله - في كتابه "النكت".

وما زال العلماء في كل عصر يؤلفون في تقرير وتحرير قواعد هذا العلم الشريف، ويبذلون الجهود في سبيل حفظ سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -؛ فنسأل الله أن يحفظ علماء الإسلام، وكانت هذه إطلالة على نشأة وبداية التصنيف في علم مصطلح الحديث.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.